هنا المدينة العظمى وهل لك أن تظفر منها بشيء ؟ إن عليك أن تفقد فيها الكثير.. هنا جحيم الأفكار، كل فكرة فريدة، هنا تصهر الأفكار السامية، حتى تصبح مزيجا مائعا، هنا تتهرأ كل عاطفة شريفة، ولا يسمح إلا للعواطف الجافة بأن تعلن نفسها ا




لا بلغت أنفك رائحة المجازر، حيث تنحر الأفكار، ومطاعم السوقه حيث تباع بأبخس الأثمان ؟ أفما ترى أبخرة العقول المضحاة تتصاعد منتشرة كالدخان فوق المدينة ؟ ألا تلوح لك الأرواح وهي معلقة معروضة، كأنها خرق قذرة بالية ؟ إذا هي تنقلب صحفا تنشر بين الناس ؟ ألا تسمع البيان الكلي يستميل هنا إلى تلاعب ألفاظ وسخائف تغض بها جداول الصحف، فإذا هي مصارف أقذار ؟ إن بعضهم يتحدى البعض ولا يعلمون على أي شيء يختلفون، يأخذ بهم الغيظ كل مأخذ، وقد غاب عنهم سببه، فلا يسمعون إلا صفصفى قلوبهم، ورنين دنانيرهم ! هنا مقام جميع الرذائل والشهوات، وهنا أيضا فضائل عديدة لها مهاراتها، ولها مشاغلها، ولتلك الفضائل الجمة أنامل للكتابة، وأرداف من رصاص... أي زرادشت : استحلفك بكل ما فيك من قوة ونور وصلاح أن تتفل - تتف - على هذه المدينة، مدينة بائعي السلع، ثم تكر راجعا إلى الوراء. إن الذي يجري في عروق المدينة إنما هو دم فاسد فأبصق على المدينة الكبرى، لأنها مزبلة تتراكم فيها الأقذار. أبصق على مدينة النفوس الصعيفة، والصدور الضيقة، مدينة العيون الحاسدة، والأنامل اللزجة، مدينة الوقحين والفجار والمعربدين، والطامعين البائسين. المدينة التي يتكدس فيها من يأكلهم سوس الفساد، من أهل الشهوات المتآمرين، أبصق على هذه المدينة، وعد أدراجك... ! لقد كرهت هذا المدنية العظمى أنا أيضا


ليس في هذه المدينة من يقبل إصلاحا، بل زيادة فسادا، ويل لهذه المدينة، ليت تجتاحها أعاصير النار، فتذرها رمادا، إذ لا بد من انطلاق مثل هذه الأعاصير منذرة بالظهيرة الكبرى، ولكن انطلاقها مرهون إلى بزمانها ومقدرتها. الويل الويل لقد ساءت الحال، يا للإنحطاط، إن العالم لم يسقط إلى مثل هذه الدركة قبل الآن، لقد استحالت روما إلى عاهرة وتدنى قيصرها إلى مرتبة الحيوان !

هكذا تحدث زرادشت -- نيتشة